رحلة كازانتزاكيس في فلسطين- تأملات ونبوءات في أرض الصراع

المؤلف: أحمد الدبش09.24.2025
رحلة كازانتزاكيس في فلسطين- تأملات ونبوءات في أرض الصراع

في الأعوام ما بين 1926 و 1927، كلفت جريدة "اليغيثروس لوغوس" اليونانية الأديب والروائي المرموق نيكوس كازانتزاكيس بالسفر إلى فلسطين لتغطية فعاليات عيد الفصح في عام 1926. وقد قام كازانتزاكيس بتدوين انطباعاته ومشاهداته ونشرها في الجرائد اليونانية في نفس العام.

وفي سنة 1927، ظهرت النسخة الأولى من مؤلفه "ترحال"، الذي احتوى على تأملاته وانطباعاته حول فلسطين، ومصر، وإيطاليا، وقبرص. ونظرًا لما احتواه الكتاب من آراء حساسة حول فلسطين في تلك الحقبة، فقد تُرجم إلى اللغة العربية في عام 1989 على يد كل من منية سمارة ومحمد الظاهر، ونشرته مؤسسة خلدون في عمّان. يقع هذا الكتاب في 85 صفحة من الحجم المتوسط، ويتناول مجموعة من الموضوعات البارزة، ومنها:

نحو أرض الميعاد

استهل كازانتزاكيس رحلته بسؤال فلسفي عميق: "إلى أي مدى ارتقى الإنسان المعاصر بعد مرور تسعة عشر قرنًا من الجهد والإنجازات؟ وما الذي يدفعه إلى مغادرة منزله والانطلاق في رحلة مضنية ومكلفة إلى الشرق، حيث يسكن العرب، لمجرد إقامة الصلوات في معبد مسيحي ما زال معناه مبهمًا بالنسبة إليه؟".

وقد رافق هذا التساؤل إحساس عميق ورؤية شاعريّة تجاه الأرض التي كان على أعتاب الوصول إليها. وأبدى إعجابه الشديد بفلسطين، التي وصفها بأنها أرض "توهج منها ذات يوم، ذلك النور الذي سطع من بيت متواضع، وضاع في الناصرة ليضيء، ويوقظ الحياة، والحيوية في قلب الإنسان".

وعندما قاربت السفينة من شواطئ فلسطين، وصف كازانتزاكيس المشهد بأسلوب شاعري نابض بالحياة: "بدت الأرض كشريط ممتد فوق سطح البحر، ثم تجلت الجبال المنخفضة في يهودا، بلون رمادي يتحول تدريجيًا إلى أزرق شفاف. وأخيرًا غرقت في ضياء النهار الساطع. بدت حيفا قاتمة بجانب الرمال البيضاء، بينما بدت المدينة اليهودية الجديدة، تل أبيب، على يسارها".

وهذا الوصف لم يكن مجرد تصوير مرئي؛ بل كان ترجمة لرؤى كازانتزاكيس وتطلعاته تجاه الأرض التي ارتبطت بالعقيدة المسيحية، ولكنه لم يخفِ تفاؤله الذي يحمل بعدًا رومانسيًا حول طبيعة هذه الأرض، وما يمكن أن تمثله للبشرية جمعاء.

مشاهد من كنيسة القيامة

انطلقت رحلة نيكوس كازانتزاكيس في القدس صباح يوم السبت المقدس، حينما وقف عند مدخل القبر المقدس، ليصف لنا المشهد داخل كنيسة القيامة بأسلوب حيوي ينقل القارئ إلى صميم الحدث: "كانت الكنيسة تعج بالزوار كخلية نحل عظيمة، حيث احتشد المسيحيون العرب ذوو العيون الحالمة والانفعالات الظاهرة، يرتدون الطرابيش والجلابيب الزاهية، يصعدون إلى السطوح القرميدية.

كان المكان يعج بالزائرين الذين قضوا ليلتهم هناك، يفترشون الأرض على حصر من القش والسجاجيد، منتظرين تلك اللحظة الفاصلة التي ينطلق فيها "النور الرباني" من القبر المقدس.

كانت أباريق المياه الرمادية، بنقوشها العربية البرتغالية، والمشروبات الروحية والشربات، وعصير الليمون، تتداول بين الأيدي، خلال هذا الحشد المدهوش الذي يخيم أمام الكنيسة.

وكانت أباريق القهوة تغلي على المواقد المتنقلة تحت الأيقونات الجليلة، والأمهات يكشفن عن صدورهن، أمام هذه الجموع الغفيرة، ليقمن بإرضاع أطفالهن، وكانت رائحة العرق البشري النفاذة تعبق في الأجواء. وكانت رائحة الشمع المشتعل، والزيوت العطرية، ورائحة شعور النساء، كلها تفوح برائحة تشبه رائحة المواشي المثيرة للاشمئزاز".

وقد وثّق الكاتب التنافس المحموم بين الطوائف المسيحية المتنوعة حول السيطرة على الأماكن المقدسة. وأشار إلى كيف أن أحد الرهبان الأرثوذكس كان يحدق في الطوائف الأخرى بنظرات مملوءة بالحقد، ويؤكد أن الأماكن المقدسة هي حكر على الأرثوذكس وحدهم، مشيرًا إلى تسييج المناطق المتنازع عليها بالعوارض المعدنية، كي لا يُسمح لأي إنسان بالدخول إليها.

إن وصف كازانتزاكيس لكنيسة القيامة هو شهادة حية على الروحانية والتناقضات التي تتجسد في هذا المكان المقدس. فبين الإيمان العميق والتنافس الدنيوي، يقدم الكاتب صورة معقدة وثرية عن واقع الأماكن المسيحية في القدس في تلك الحقبة.

مشاهد الطقوس في كنيسة القيامة وجبل آثوس

في مشاهد تتسم بالطابع التأملي والواقعي، قدم الكاتب نيكوس كازانتزاكيس عرضًا لطقوس العبادة التي شاهدها بنفسه في كنيسة الانبعاث. ففي عيد الفِصح، وأثناء جولته في الكنيسة، لمح الصورة التالية: "كانت الكنيسة تتلألأ بالأنوار، بينما غمرت أزهار الليمون المتناثرة والمطحونة الأجواء برائحة حمضية آسرة تمتزج بأنفاس البشر". وعلى الرغم من الأجواء الروحانية المهيمنة، اعترف الكاتب بإحساس عميق بالانفصال الداخلي: "أحسست، وبشكل قاطع، بعدم وجود أية دلالات على أي انبعاث داخلي".

وبعد تأمله في كنيسة القيامة، سافر كازانتزاكيس إلى جبل آثوس، المشهور بقدسيته، حيث ارتسمت أمامه صورة للأديرة البيزنطية التي تميز المكان: "وبدت الأديرة البيزنطية أمامي، شامخة فوق سطح البحر، متألقة وباردة كالصخور التي تبرز فجأة من الماء، وتظل تتقاطر على شاطئ البحر".

وتنقل الكاتب بين الأديرة المتنوعة، حتى تم تخصيص دير برودروموس له. ووصف هذا الدير بتفاصيل دقيقة تبرز عزلته ومهابة طبيعته: "إنه معبد منعزل يشرف على البحر، مقام على جرف مهجور. لا يوجد فيه ماء ولا أشجار، ويرتبط بشاطئ البحر عبر ممر مشاة شديد الانحدار. وبعد مسيرة استغرقت ساعة كاملة، وقفت على بابه".

لقد خُصص لكازانتزاكيس في الدير صومعتان، بالإضافة إلى أطلال مصلى مغطى بالجِص. وانكب في الأيام الأولى على التفكر والتخطيط لنمط حياة زاهد: "لقد أمضيت الأيام الأولى لي، وأنا جالس على عتبة الدير، أخطط لحياة الزهد والتقشف، متنقلًا بين التصورات، والحسابات المنطقية، والافتراضات الهندسية الساذجة".

زيارة جامع عمر

لم تشمل رحلة كازانتزاكيس زيارة المسجد الأقصى أو قبة الصخرة، إلا أنه عندما دنا من جامع عمر، امتلأ قلبه فرحًا، حيث يقول: "طفت حول مسجد عمر، وقلبي يفيض بالبهجة". وتجول كازانتزاكيس في الساحة المطلة على القدس القديمة، وسار بخطوات واسعة وسريعة، وكأن الجامع قد أسر روحه بجماله: "طفت حول هذا المسجد المهيب الرائع لساعات طويلة".

وقد وصف كازانتزاكيس الأماكن اليهودية "المُتخيلة" في القدس بـ "المستنقع الدموي لإسرائيل" (ص 55)، في المقابل قدم وصفًا معماريًا متميزًا للجامع، مقارنًا إياه بنافورة منحوتة: "يشمخ أمامي تحت أشعة الشمس، مثل نافورة منحوتة من الأحجار النادرة، ترتفع إلى السماء، وتتدفق مياهها قليلًا في الهواء، ثم تدور على أعقابها متراجعة، وتعود ثانية إلى الأرض"، وعندما دخل المسجد، عبر الكاتب عن دهشته بالزخارف والنقوش العربية التي تتدلى كأنّها جزء من الطبيعة: "دلفت إلى الداخل، وأنا في غاية الانبهار والذهول. كانت الحروف العربية مجدولة كالأزهار، حروف تجسد الحكم والمواعظ القرآنية، تلتف حول الأعمدة، كأشجار العنب المتسلقة، ثم تزهر مرة أخرى وهي تطوق القبة".

وأشار إلى الأجواء الروحانية العميقة داخل المسجد، حيث قال: "لقد كان مسجد عمر ينبض بالإيمان، والروائح العطرة".

بكاء العبريين

أثناء جولته في القدس، قدم الكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازانتزاكيس تصويرًا دقيقًا ومفعمًا بالمشاعر لمشاهداته عن اليهود بالقرب من الحائط الغربي، المعروف أيضًا باسم حائط البراق، مسلطًا الضوء على التباين بين ثقافات المدينة وسلوك سكانها.

استهل كازانتزاكيس بوصف مقارنة بين ملامح اليهود والمسلمين الذين التقاهم في شوارع القدس. ولاحظ في نظرات اليهود التوتر والتهكم والقلق، مصورًا ذلك بقوله: "كان بريق عيون العبريين يشير إلى السخرية، والقلق، والشهوة، والحسد".

وفي المقابل، وصف المسلمين بالسكينة والإيمان الراسخ، قائلًا: "أما المسلمون فقد كانوا هادئين، يؤمنون بعمق ويقين برعاية الله، وهم ينظرون إليك بنظرات محايدة لا مبالية، وأنت تمر بقربهم".

وعندما وصل الكاتب إلى الحائط الغربي، الذي أطلق عليه خطأً "حائط معبد سليمان"، وصفه بأنه: "جدار عادي جدًا، ذو حجارة ضخمة مرصوفة فوق بعضها البعض دون أي مواد إسمنتية بينها. الحجارة العالية مغطاة بالطحالب، التي تتدلى على الحجارة الواقعة أسفل منها". وأشار إلى الأثر البشري الملموس على الحجارة "التي تقع في متناول أيدي الناس، والتي تصل إليها أيديهم، فقد أصبحت نظيفة نتيجة للمسات، والقبلات، ومعانقة اليهود".

سجل كازانتزاكيس تفاصيل دقيقة عن الطقوس التي يؤديها اليهود عند الحائط، قائلًا: "حوالي خمسين عابدًا، كانوا يحملون العهد القديم في أيديهم، ويتكئون على الجدار، وهم ينوحون ويبكون". وأشار أيضًا إلى الفصل بين الرجال والنساء أثناء العبادة: "أما النساء فقد كن يقفن في زاوية في الجهة اليسرى".

تأملات في فلسطين

في سرده عن فلسطين، يرسم الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس صورة تمزج بين روعة الطبيعة القاسية، والواقع المرير، والطموحات الدينية والسياسية. وقد دمج في سرده بين تأملاته عن التضاريس والمناظر الطبيعية، وبين رؤاه الفلسفية حول الصلة بين الإنسان والأرض.

يبدأ كازانتزاكيس بوصف مشاهداته في صحراء يهودا الشاسعة الممتدة من القدس إلى نهر الأردن والبحر الميت، والتي اتسمت بالوعورة والقسوة: "لم أرَ زهرة واحدة تتفتح، ولا قطرة ماء تتصاعد من تلك الأرض الجافة القاحلة".

ويصف الجبال المحيطة بأنها: "قاحلة قاسية، وعصية على الوصول، كانت مثالًا رائعًا للفنان الذي يعشق الجمال المتقشف المأساوي". وتظهر كلماته تقديرًا لجمال الطبيعة القاسي الذي يوحي للأنبياء والمبدعين، ولكنه يعترف بأن هذا المشهد الجاف: "لا يناسب أبدًا الأشخاص العاديين البسطاء، الذين يريدون أن يشيدوا بيوتًا، ويزرعوا أشجارًا، وينجبوا ذرية".

وعلى النقيض من قسوة الصحراء، انتقل كازانتزاكيس إلى تصوير الواحات والمدن التي تفيض بالحياة، أريحا، "ترى أريحا تبتسم لك، كواحة منعزلة، وتجد نفسك أمام بساتين الرمان المتفتحة، وأشجار الموز، والتين، والتوت… محاطة بسياج من أشجار النخيل الطويلة النحيلة. فترتاح عيناك، ويشعر جسدك بالراحة والانتعاش".

وحيفا، "تستقبلك نفس المناظر البهيجة في حيفا، فترى بساتين الرمان المتفتحة والمتجددة، وبساتين أشجار البرتقال والليمون". والخليل، "في الجنوب، في مدينة الخليل، تشعر بألفة وسلام الأرض، وهي تستقبل محراث الإنسان". أما السامرة والجليل، "تبدو الجبال أكثر لطفًا وتوددًا، حيث ترى الطيور، والمياه المتدفقة، والأشجار الوارفة، تضفي على الطبيعة بهجتها وجمالها"، غير أنه يشير إلى أن أمراض الحمى كانت تفتك بالناس في تلك المناطق آنذاك.

وقد نقل كازانتزاكيس حوارًا مع حاخام يهودي، عرض فيه فلسفة تحرير الأرض وربطها بمهمة الإنسان: "كل إنسان يحمل على عاتقه مهمة حقيقية تتصل بالأشياء التي ينبغي عليه أن يحررها: عليه أن يحرر حيواناته، وأرضه، وأدوات عمله، وجسده، وعقله. إن عليه واجب تحرير كل هذه الأشياء. ولكن كيف؟ عن طريق استخدامها، وتهذيبها، وتطويرها" (ص 78). ويرى الحاخام أن حرية الشعب اليهودي تكمن في أن يمتلك فلسطين: "إذا أراد الشعب اليهودي أن يتحرر، فعليه أن يمتلك فلسطين".

نبوءة كازانتزاكيس: رؤية استشرافية للصراع في فلسطين

في نقاش عميق مع فتاة يهودية تدعى جوديت، طرح الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس تصوره المستقبلي حول مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين، محذرًا من التحديات والمآسي التي قد تترتب على هذا المشروع. جاءت كلماته مثقلة بنبرة فلسفية، تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للمشروع الصهيوني، وتحذيرًا من عواقبه الوخيمة.

أكد كازانتزاكيس بوضوح أن الصهيونية "تتعارض وتتنافى مع المصالح العليا للجنس اليهودي". ويرى في الحركة الصهيونية قناعًا يضلل اليهود إلى ما لا نهاية، ووسيلة لتضليلهم عن حقيقتهم ومصيرهم.

كما أشار إلى نقطة محورية في نقده للصهيونية حينما صرح للفتاة جوديت: "لن تنعموا بالسعادة والأمن هنا في فلسطين". فبالنسبة إليه، فإن السعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يتعارض مع الواقع الجيوسياسي، خاصة في ظل وجود: "حشود من العرب السمر الأقوياء المتحمسين". وقد استند كازانتزاكيس إلى عامل العدد لاستبعاد إمكانية نجاح المشروع الصهيوني: "كيف يمكن لخمسة عشر مليون يهودي أن يحشروا أنفسهم هنا؟".

واختتم كازانتزاكيس حديثه بتوقع يحمل نبرة صارمة وواضحة: "أتمنى – لأنني أحب اليهود – أن يتمكن العرب، عاجلًا أم آجلًا، من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم".

في هذا التصريح، عبر عن قناعته بأن مشروع الصهيونية ليس فقط غير قابل للتحقيق، بل يحمل في طياته بذور صراعات ستجلب الكوارث على اليهود أنفسهم قبل غيرهم.

لقد كتب كازانتزاكيس هذه الرؤية قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بعقود، وقبل أن يتبلور الصراع العربي- الإسرائيلي بالصورة التي نشهدها اليوم. ولذلك، يمكن اعتبار كلماته بمثابة نبوءة استشرافية تستند إلى قراءة متأنية للصراع بين المشروع الصهيوني وواقع فلسطين.

يعد كتاب "ترحال" بمثابة شهادة ذات قيمة تاريخية، كتبها أحد أبرز مفكري القرن العشرين. وفيه أدان كازانتزاكيس الصهيونية من منظور فلسفي وإنساني، قبل أن يدرك العالم حجم الكوارث التي ستنجم عن هذا المشروع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة